وهم الدولة الفلسطينية- خداع أميركي وتضليل إسرائيلي؟

المؤلف: مَاجد إبراهيم11.17.2025
وهم الدولة الفلسطينية- خداع أميركي وتضليل إسرائيلي؟

في خضم الهجمة الشرسة التي يشنها الكيان الإسرائيلي على قطاع غزة، أطل علينا الرئيس الأمريكي جو بايدن بمبادرة تدعو إلى إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة، وهي فكرة سعى إلى ترويجها خلال جولاته في المنطقة، والزيارات المتكررة التي قام بها وزير خارجيته أنتوني بلينكن.

لقد بادر بايدن بالحديث عن هذا التوجه قبل انتهاء الحرب، وهو ما يختلف عما حدث في عام 1991، عندما تم الإعلان عن مؤتمر سلام إقليمي بمشاركة الدول العربية والكيان الصهيوني، وذلك عقب هزيمة العراق في الحرب التي قادتها واشنطن ضده بعد احتلاله للكويت.

هذه المرة، تحاول الإدارة الأمريكية قلبَ المقاييس، والسعي إلى استباق الأحداث، وذلك بهدف إنقاذ الكيان الصهيوني من المأزق الذي وجد نفسه فيه، ومنح الحرب غطاءً سياسيًا من خلال حل سياسي أثبت فشله على مدار أكثر من ثلاثين عامًا من المفاوضات، والذي قوبل بالرفض القاطع من قبل إسرائيل.

يهدف هذا الطرح إلى إحداث تغيير في أجواء التفاعل والتضامن في المنطقة العربية مع المقاومة الفلسطينية، وتحويل الاهتمام بها لدى الشعوب العربية إلى عنوان سياسي زائف، وكذلك تخفيف النقمة العارمة في الغرب وفي العالم على الكيان

أهداف التحرك

يأتي هذا التحرك الأمريكي كمحاولة حثيثة لاستعادة السيطرة على زمام الأمور في المنطقة، وذلك بعد أن وجه "طوفان الأقصى" ضربة موجعة للإستراتيجية الأمريكية التي كانت تركز على مواجهة الصين وروسيا كأولوية قصوى، وتفويض الكيان الصهيوني بمهمة حماية مصالح الولايات المتحدة في المنطقة بعد انسحابها منها.

وقد أدى تزلزل صورة الكيان بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، إلى إحداث اضطراب كبير في الإستراتيجية الأمريكية التي كانت تسعى إلى دمج الكيان في المنطقة العربية بعد تصفية القضية الفلسطينية، وتحويلها إلى قضية ثانوية، وذلك من خلال استكمال عملية التطبيع وتشكيل تحالف بين الدول العربية والكيان الصهيوني، وهو ما كان سيؤدي إلى تتويج الكيان على رأس المنطقة بما يمتلكه من قدرات تكنولوجية هائلة وقوة عسكرية وأمنية ضاربة.

لقد ظهر الكيان الصهيوني في حالة من الوهن والضعف غير المسبوقة في تاريخه، وفقد صورته كجيش لا يقهر، وتزعزعت نظريته للردع، حيث بدا ضعيفًا ومرتبكًا وخائفًا، وهو الأمر الذي استدعى التدخل المباشر من قبل الولايات المتحدة لإنقاذه من ورطته، ومنع خصومه من استغلال هذه الفرصة التاريخية للانقضاض عليه، فضلًا عن التخوف من ردود أفعاله غير المتزنة، والتي قد تتسبب في إلحاق هزيمة أخرى به لا تقل في فداحتها عن هزيمة 7 أكتوبر/تشرين الأول.

لم يكن كافيًا بالنسبة لواشنطن أن تقدم لهذا الكيان ما يحتاجه من دعم عسكري وأمني وتوفير الغطاء السياسي لعدوانه، بل كان لا بد من ضمان استمرار دوره، وتجاوز الصدمة التي تعرض لها من خلال طرح مشروع الدولة المستقلة، والذي يضمن إعادة دمجه في المنطقة من خلال عملية التطبيع وما يتبعها من خطوات، وهو الأمر الذي سيعزز الإستراتيجية الأمريكية، ويتجاوز الضرر الذي لحق بها.

وفي سبيل تحقيق هذه الغاية، لا بد من مصادرة انتصار المقاومة، وتأثيراته الإيجابية المحتملة على القضية والمنطقة، بما في ذلك إيجاد توافق فلسطيني على برنامج سياسي يستند إلى برنامج المقاومة، ونبذ عملية التسوية التي فشلت في تحقيق أي إنجاز للشعب الفلسطيني، وتشكيل نموذج ملهم في المنطقة يعزز آمال الشعوب في تحقيق حريتها والتخلص من قيود حكامها، وتجميد أو إيقاف عملية التطبيع مع الكيان.

كما هدفت المبادرة إلى تمكين سلطة فلسطينية (بثوب جديد) تابعة لإسرائيل تحت عنوان زائف وغير واقعي، ووعد زائف غير قابل للتحقيق، في ظل الموقف الإسرائيلي الذي يرفض بجميع أطيافه القبول بالدولة المستقلة حتى ولو كانت منزوعة السلاح كما وصفها بايدن.

كما يهدف هذا الطرح إلى إحداث تحول في المشاعر والتضامن الذي تبديه المنطقة العربية تجاه المقاومة الفلسطينية، وتحويل اهتمام الشعوب العربية بالمقاومة إلى مجرد شعار سياسي خادع، وكذلك تخفيف حدة الغضب العارم في الغرب وفي العالم تجاه الكيان، وذلك من خلال إشغال المنطقة بعملية سياسية تستهلك طاقاتها وتعلقها بأمل زائف أثبتت التجارب أنه غير قابل للتحقيق.

وهذا يقودنا إلى موقف الحكومة الإسرائيلية المتطرفة التي أبدت بعناد رفضها لهذه الدولة وعارضت أمريكا التي تسعى لإنقاذها من هزيمتها، وهي بذلك تشبه الحيوان الجامح الذي يفلت من صاحبه، ويصر على أن يصطدم بالحائط بقرنيه ليتسبب في تدمير رأسه!!

والأخطر من ذلك، أن حكومة بايدن تسعى إلى صرف الأنظار عن الاحتلال والعدوان الإسرائيلي الوحشي، من خلال جر السلطة الفلسطينية والدول العربية إلى مسرحية الدولة المستقلة، تمهيدًا لما هو أخطر، وهو التطبيع مع الكيان الصهيوني، وذلك على الرغم من أنها قدمت الدعم الكامل لاستمرار العدوان، وأكدت على حق الكيان فيما أسمته الدفاع عن نفسه، ورفضت بإصرار الدعوات لوقف إطلاق النار، والانسحاب الإسرائيلي الكامل من قطاع غزة.

صحيح أن إدارة ترامب السابقة التي روجت لصفقة القرن، ولم تتحدث عن الدولة المستقلة وركزت على السلام الاقتصادي، إلا أن مسعى إدارة بايدن لا يختلف في جوهره عن صفقة القرن، فهو يهدف إلى التطبيع والسلام الاقتصادي، وتمكين الكيان من قيادة المنطقة.

كما يسعى بايدن إلى تحقيق إنجاز في مجال التطبيع في المنطقة يقدمه كهدية لإدارته على أعتاب انتخابات الرئاسة الأمريكية، وذلك لتعويض خسائره الانتخابية المحتملة أمام منافسه ترامب، ومواجهة الانتقادات التي يوجهها إليه التيار اليساري في حزبه؛ بسبب انحيازه الصارخ للكيان، وعدم ممارسة ضغوط حقيقية عليه لوقف استهداف المدنيين في غزة.

موقف إسرائيلي متشدد

أعلنت منظمة التحرير قيام الدولة الفلسطينية عام 1988 على الأراضي المحتلة عام 1967، وقد كان إعلانًا رمزيًا؛ لأن الفلسطينيين لا يسيطرون على هذه الأرض، ولكن اتفاقيات أوسلو عام 1993 حدّدت سقفًا زمنيًا للاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة عام 1999، بعد اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بدولة إسرائيل، ولكن ذلك لم يتحقق حتى الآن!

كما عرض رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إيهود باراك، في مفاوضات كامب ديفيد عام 2001 – في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون – إقامة دولة منزوعة السيادة والسلاح، وبدون سيطرة على الموارد الطبيعية والأجواء والبحر، على أن يتنازل الفلسطينيون عن القدس، وهو ما رفضه الرئيس الراحل ياسر عرفات، وكان سببًا في اغتياله عام 2004.

كما فشلت اللجنة الرباعية -التي كانت تضم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة – في تحقيق وعد الدولة حتى بعد توقف انتفاضة 2000، لتستمر إسرائيل في ابتلاع الأراضي وتهويد القدس، وليتضاعف عدد المستوطنين ويقفز من 115 ألفًا عام 1993 إلى 750 ألفًا عام 2023.

ولذلك، فإن الحقيقة السياسية الجلية لدى الكيان، هي أنه لا توجد أي حكومة في الكيان تقبل بدولة فلسطينية مستقلة، وهذه الحكومة هي الأكثر تشددًا في رفضها.

حاول بايدن إقناع نتنياهو بالدولة المستقلة، حينما قال: إن الدولة الفلسطينية بوجود نتنياهو ليست مستحيلة، وإنه معجب بفكرة الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح. ولكن نتنياهو سارع إلى تكذيبه والتأكيد على تمسكه بموقفه، وأعلن أنه يرفض التنازل عن السيطرة الأمنية الإسرائيلية الكاملة على كامل المنطقة الواقعة غرب الأردن، وهذا يتعارض مع قيام الدولة الفلسطينية.

ويأتي هذا مع الميل المتزايد لنتنياهو نحو الأفكار الكهانية التي يمثلها المتطرفان بن غفير وسموتريتش، واللذان يؤمنان بأن لإسرائيل الحق في كل شبر يقع بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط، وعدم التخلي عن أي جزء منها، وأن الاعتراف بالدولة الفلسطينية -حتى وإن كانت بلا سيادة حقيقية- هو خطر وجودي على إسرائيل.

لذلك تشن هذه الحكومة حرب إبادة جماعية وتطهير عرقي لتكريس هوية الكيان، ومحو الهوية الفلسطينية؛ لأنها لا ترى شعبًا آخر موجودًا بجانبها، وتسعى لتهجيره إلى خارج فلسطين التاريخية.

عبر الكاتب ليان فولك ديفيد عن حقيقة المواقف الإسرائيلية من الدولة المستقلة في مقال له في صحيفة هآرتس في 6 فبراير/ شباط 2024، عندما قال: "بإمكان حكومة نتنياهو أن ترد بالإيجاب على الخطاب البناء في المبادرة الأمريكية. فالجميع يعلم أن إقامة الدولة الفلسطينية أمر غير ممكن على المدى القريب.

لذلك لا يوجد أي مبرر يمنع إسرائيل من أن تصرح بأنها لا تعارض حل الدولتين، إذا كانت الظروف مهيأة في المستقبل. يجب على الحكومة أن توضح للعالم أنها لا ترغب في السيطرة على القطاع، وأنه يجب عليها أن تستثمر بشكل فعال في بناء بديل مدني لحماس. هذه السياسة الخارجية هي قبل كل شيء مصلحة أمنية لإسرائيل. فكل يوم تصر فيه إسرائيل على الرفض فإن الزخم السياسي والأمني الذي نشأ بعد 7 أكتوبر لن يتبدد فحسب، بل سيتحطم أيضًا".

اليوم التالي للحرب

مع هذه الحقائق الماثلة أمامنا، فإن ما تقوم به واشنطن هو نفاق وتضليل وكذب، ومحاولة للتلاعب بالألفاظ للتستر على دعمها المطلق للكيان في حربه على غزة. كما أنه يعتبر محاولة للتغطية على فشلها الذريع في التعامل مع شخص متشبث بالسلطة وخضوعها لضغوط اللوبي اليهودي، رغم أنها سبق أن تحدثت عن خلافات حادة مع نتنياهو بشأن مرحلة ما بعد الحرب وتخفيف حدة استهداف المدنيين!

وفي هذا السياق، تأتي دعوة السيناتور الأمريكي بيرني ساندرز، الرئيسَ بايدن إلى رفض سياسات حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة بشكل قاطع، ومطالبة الكونغرس بالتحرك الفوري، وعدم تقديم المزيد من المساعدات العسكرية الأمريكية لحكومة نتنياهو، وهو ما لم تقدم عليه أي إدارة أمريكية سابقة.

إن طرح إدارة بايدن لمشروع الدولة المستقلة يندرج في إطار التحضير لليوم التالي للحرب، والذي يقوم أساسًا على إعطاء الضوء الأخضر للاحتلال لمواصلة قتل وتشريد الفلسطينيين، ومحاولة القضاء على مقاومتهم أو إجبارهم على الاستسلام وفرض خيارات سياسية عليهم من خلال سلطة تحمل صفات تتوافق مع أهداف الاحتلال، ثم تمكينها من كيان هزيل يؤدي إلى إنهاء القضية وفتح الأبواب على مصراعيها أمام تحالفات عربية مع الكيان تحت ستار التطبيع المزعوم.

وفي خضم هذه الأحداث، برز موقف لافت للمملكة العربية السعودية يطالب بوقف فوري للحرب وانسحاب إسرائيلي كامل من غزة قبل الخوض في أي حديث عن دولة مستقلة وتطبيع، وهذا الموقف موجه بالأساس لحكومة نتنياهو، ورسالة واضحة لإدارة بايدن مفادها أن أي حل سياسي يجب أن يسبقه وقف شامل لإطلاق النار.

وكانت الخارجية الأمريكية قد صرحت في بيان رسمي: إن واشنطن تلقت تعهدات من دول في المنطقة بالمشاركة الفعالة في إعادة إعمار غزة بعد انتهاء الحرب "إذا كان هناك مسار حقيقي نحو إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة"!.

إن استمرار عجز الدول العربية عن اتخاذ موقف حاسم وجاد ضد الكيان، مثل: قطع العلاقات الدبلوماسية ووقف عمليات التطبيع المذلة، أو اتخاذ إجراءات اقتصادية رادعة ضد الولايات المتحدة والدول الأوروبية الداعمة للاحتلال، هو ما يشجع الإدارة الأمريكية على الاستمرار في نهجها المعادي للشعب الفلسطيني، والاستمرار في الترويج لمسرحية الدولة المستقلة التي يجب عدم الانجرار إليها كغطاء للعدوان، وستظل هناك مسؤولية قومية تاريخية لوقف العدوان الغاشم والانسحاب الإسرائيلي الفوري من غزة، وتوفير الدعم اللامحدود للشعب الفلسطيني لإعادة الإعمار، ومساندته في كل المجالات لتمكينه من استعادة وطنه المحتل، ودعم مقاومته الباسلة في سبيل نيل حقوقه المشروعة.

إن الاستمرار في الحديث عن الدولة الفلسطينية في الوقت الذي تتواصل فيه جرائم الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني الأعزل، ويستمر الرفض الإسرائيلي القاطع حتى لقيام دولة فلسطينية منزوعة السلاح، هو مجرد مهزلة وخداع وتضليل وامتهان لعقول الفلسطينيين والعرب جميعًا، واستهتار سافر بدماء الفلسطينيين الزكية.

ثم إن محاولة فرض خيارات قسرية على الشعب الفلسطيني الصامد، وفرض سلطة محددة وتسليمها الدولة الموعودة، لن يكتب لها النجاح ما دامت المقاومة الأبية مستمرة، وما دام الفلسطينيون متمسكين بحقوقهم المشروعة وسعيهم الدؤوب للاتفاق على برنامج وطني فلسطيني جامع تتفق عليه قواهم الوطنية كافة بعيدًا عن وصاية الاحتلال البغيض أو أمريكا أو أي وصاية أخرى.

وهكذا، فإن مشروع الدولة الفلسطينية لن يكتب له النجاح سواء بالرفض الإسرائيلي المتصلب أو بعدم تلبيته لطموحات وتطلعات الفلسطينيين بالصيغة التي تطرحها واشنطن المتحيزة.

وكما أفلح "طوفان الأقصى" المبارك في إعادة القضية الفلسطينية إلى واجهة الأحداث، فإن استمرار المقاومة الباسلة وصمودها الأسطوري على أرضها، والتفاف الشعب الفلسطيني المناضل حولها، سيمكن الفلسطينيين حتمًا في النهاية من تقرير مصيرهم بأنفسهم والوصول إلى تحرير أرضهم المقدسة، مهما طال الزمن أو قصر.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة